فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو حيان:

{أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}
قيل: تعلق هذه الآية بما قبلها من جهة أنه فرض أنّ النفس الظالمة لو كان لها ما في الأرض لافتدت به، وهي لاشيء لها البتة، لأنّ جميع الأشياء إنما هي بأسرها ملك لله تعالى، وهو المتصرف فيها، إذ له الملك والملك.
ويظهر أنّ مناسبتها لما قبلها أنه لما سألوا عما وعدوا به من العذاب أحق هو؟ وأجيبوا بأنه حق لا محالة، وكان ذلك جوابًا كافيًا لمن وفقه الله تعالى للإيمان، كما كان جوابًا للأعرابي حين سأل الرسول صلى الله عليه وسلم: آلله أرسلك؟ قوله عليه السلام: «اللهم نعم» فقنع منه بإخباره صلى الله عليه وسلم إذ علم أنه لا يقول إلا الحق والصدق، كما قال هرقل: لم يكن ليدع الكذب ويكذب على الله انتقل من هذا الجواب إلى ذكر البرهان القاطع على حجته.
وتقريره بأن القول بالنبوة والمعاد يتفرعان على إثبات الإله القادر الحكيم، وأنّ ما سواه فهو ملكه وملكه، وعبر عن هذا بهذه الآية، وكان قد استقصى الدلائل على ذلك في هذه السورة في قوله: {إن في اختلاف الليل والنهار} الآية وقوله: {هو الذي جعل الشمس ضياء} فاكتفى هنا عن ذكرها.
وإذا كان جميع ما في العالم ملكه، وملكه كان قادرًا على كل الممكنات، عالمًا بكل المعلومات، غنيًا عن جميع الحاجات، منزهًا عن النقائص والآفات، وبكونه قادرًا على الممكنات كان قادرًا على إنزال العذاب على الكفار في الدنيا والآخرة، وقادرًا على تأييد رسوله بالدلائل وإعلاء دينه، فبطل الاستهزاء والتعجيز.
وبتنزيهه عن النقائص كان منزهًا عن الخلف والكذب، فثبت أن قوله: {ألا إن لله ما في السموات والأرض} مقدمة توجب الجزم بصحة قوله: {ألا إن وعد الله حق}.
وألا كلمة تنبيه دخلت على الجملتين تنبيهًا للغافل، إذ كانوا مشغولين بالنظر إلى الأسباب الظاهرة من نسبة أشياء إلى أنها مملوكة لمن جعل له بعض تصرف فيها واستخلاف، ولذلك قال تعالى: {ولكن أكثرهم لا يعلمون} يعني: لغفلتهم عن هذه الدئل، ثم أتبع ذلك بذكر قدرته على الإحياء والإماتة.
فيجب أن يكون قادرًا على إحيائه مرة ثانية، ولذلك قال: وإليه ترجعون، فترون ما وعد به.
وقرأ الحسن بخلاف عنه، وعيسى ابن عمر: يرجعون بالياء على الغيبة.
وقرأ الجمهور: بالتاء على الخطاب. اهـ.

.قال أبو السعود:

{أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}
{أَلا إِنَّ للَّهِ مَا في السموات والأرض} أي ما وجد فيهما داخلًا في حقيقتهما أو خارجًا عنهما متمكنًا فيهما، وكلمةُ ما لتغليب غيرِ العقلاءِ على العقلاء، فهو تقريرٌ لكمال قدرتِه سبحانه على جميع الأشياءِ وبيانٌ لاندراج الكلِّ تحت ملكوتِه يتصرف فيه كيفما يشاء إيجادًا وإعدامًا وإثابةً وعقابًا.
{أَلاَ إِنَّ وَعْدَ الله} إظهارُ الاسمِ الجليلِ لتفخيم شأنِ الوعدِ والإشعارِ بعلة الحكم، وهو إما بمعنى الموعودِ أي جميعِ ما وُعد به كائنًا ما كان فيندرج فيه العذابُ الذي استعجلوه وما ذُكر في أثناء بيان حالِه اندراجًا أوليًا، أو بمعناه المصدريِّ أي وعدَه بجميع ما ذكر فمعنى قولِه تعالى: {حَقٌّ} على الأول ثابتٌ واقعٌ لا محالة وعلى الثاني مطابقٌ للواقع، وتصديرُ الجملتين بحرفي التنبيهِ والتحقيقِ للتسجيل على تحقق مضمونِها المقرِّر لمضمون ما سلف من الآيات الكريمة والتنبيهِ على وجوب استحضارِه والمحافظةِ عليه: {ولكن أَكْثَرَهُمْ} لقصور عقولِهم واستيلاءِ الغفلة عليهم والفهمِ بالأحوال المحسوسةِ المعتادة: {لاَّ يَعْلَمُونَ} ذلك فيقولون ما يقولون ويفعلون ما يفعلون: {هُوَ يُحْىِ وَيُمِيتُ} في الدنيا من غير دخلٍ لأحد في ذلك: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} في الآخرة بالبعث والحشرِ. اهـ.

.قال الألوسي:

{أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي إن له سبحانه لا لغيره تعالى ما وجد في هذه الأجرام العظيمة داخلًا في حقيقتها أو خارجًا عنها متمكنًا فيها، وكلمة: {مَا} لتغليب غير العقلاء على العقلاء، وهو تذييل لما سبق وتأكيد واستدلال عليه بأن من يملك جميع الكائنات وله التصرف فيها قادر على ما ذكر وقيل: إنه متصل بقوله سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ لِكُلّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا في الأرض لاَفْتَدَتْ بِهِ} [يونس: 54] كأنه بيان لعقدهم ما يفتدون به وعدم ملكهم شيئًا حيث أفاد أن جميع ما في السموات والأرض ملكه لا ملك لأحد فيه سواه جل وعلا وليس بشيء وإن ذكره بعض الأجلة واقتصر عليه: {أَلاَ إِنَّ وَعْدَ الله} أي جميع ما وعد به كائنًا ما كان فيندرج فيه العذاب الذي استعجلوه وما ذكر في أثناء بيان حاله اندراجًا أوليًا، فالمصدر بمعنى اسم المفعول، ويجوز أن يكون باقيًا على معناه المصدري أي وعده سبحانه بجميع ما ذكر: {حَقّ} أي ثابت واقع لا محالة أو مطابق للواقع، والظاهر أن حمل الوعد على العموم بحيث يندرج فيه العذاب المذكور والعقاب للعصاة أو الوعد بهما يستدعي اعتبار التغليب في الكلام، وبعضهم حمل الوعد على ما وعد به صلى الله عليه وسلم من نصره وعقاب من لم يتبعه وقال: إن اعتبار التغليب توهم وليس بالمتعين، وإظهار الاسم الجليل لتفخيم شأن الوعد والإشعار بعلة الحكم، وتصدير الجملتين بحرفي التنبيه والتحقيق للتسجيل على تحقق مضمونها المقرر لمضمون ما سلف من الآيات الكريمة والتنبيه على وجوب استحضاره والمحافظة عليه.
وذكر الإمام في توجيه ذكر أداة التنبيه في الجملة الأولى أن أهل هذا العالم مشغولون بالنظر إلى الأسباب الظاهرة فيضيفون الأشياء إلى ملاكها الظاهرة المجازية ويقولون مثلًا الدار لزيد والغلام لعمرو والسلطنة للخليفة والتصرف للوزير فكانوا مستغرقين في نوم الجهل والغفلة حيث يظنون صحة تلك الإضافات فلذلك زادهم سبحانه بقوله عز اسمه: {أَلا إِنَّ للَّهِ} إلخ، واستناد جميع ذلك إليه جل شأنه بالمملوكية لما ثبت من وجوب وجوده لذاته سبحانه وأن جميع ما سواه ممكن لذاته وأن الممكن لذاته مستند إلى الواجب لذاته إما ابتداء أو بواسطة وذلك يقتضي أن الكل مملوك له تعالى، والكلام في ذكر الأداة في الجملة الثانية على هذا النمط لا يخلو عن تكلف، والحق ما أشرنا إليه في وجه التصدير، ووجه اتصال هذه الجملة بما تقدم ظاهر مما قررنا وللطبرسي في توجيه ذلك كلام ليس بشيء: {ولكن أَكْثَرَهُمْ} لسواء استعداداتهم وقصور عقولهم واستيلاء الغفلة عليهم: {لاَّ يَعْلَمُونَ} فيقولون ما يقولون ويفعلون ما يفعلون.
{هُوَ يُحْىِ وَيُمِيتُ} في الدنيا من غير دخل لأحد في ذلك، وهذا على ما يفهم من كلام البعض استدلال على البعث والنشور على معنى أنه تعالى يفعل الإحياء والإماتة في الدنيا فهو قادر عليهما في العقبى لأن القادر لذاته لا تزول قدرته والمادة القابلة بالذات للحياة والموت قابلة لهما أبدًا، ولا يخفى أن ذكر القدرة على الإماتة استطرادي لا دخل له في الاستدلال على ذلك، والظاهر عندي أنه كالذي قبله تذييل لما سبق: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} في الآخرة بالبعث والحشر. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} تذييل تنهية للكلام المتعلق بصدق الرسول والقرآن وما جاء به من الوعيد وترقب يوْم البعث ويوم نزول العذاب بالمشركين.
وقد اشتمل هذا التذييل على مجمل تفصيل ذلك الغرض، وعلى تعليله بأن من هذه شؤونه لا يعجز عن تحقيق ما أخبر بوقوعه.
فكان افتتاحه بأن الله هو المتوحد بملك ما في السماوات والأرض فهو يتصرف في الناس وأحوالهم في الدنيا والآخرة تصرفًا لا يشاركه فيه غيره؛ فتصرفه في أمور السماء شامل للمغيبات كلها، ومنها إظهار الجزاء بدار الثواب ودار العذاب؛ وتصرفه في أمور الأرض شامل لتصرفه في الناس.
ثم أعقب بتحقيق وعده، وأعقب بتجهيل منكريه، وأعقب بالتصريح بالمهم من ذلك وهو الإحياء والإماتة والبعث.
وافتتح هذا التذييل بحرف التنبيه، وأعيد فيه حرف التنبيه للاستيعاء لسماعه، وللتنبيه على أنه كلام جامع هو حوصلة الغرض الذي سمعوا تفصيله آنفًا.
وتأكيد الخبر بحرف: {إن} للرد على المشركين لأنهم لما جعلوا لله شركاء فقد جعلوها غير مملوكة لله.
ولا يدفع عنهم ذلك أنهم يقولون: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} لأن ذلك اضطراب وخبط.
وقدم خبر: {إنَّ} على اسمها للاهتمام باسمه تعالى ولإفادة القصر لرد اعتقادهم الشركة كما علمت.
وأكد بحرف التوكيد بعد حرف التنبيه في الموضعين للاهتمام به، ولرد إنكار منكري بعضه والذين هم بمنزلة المنكرين بعضه الآخر.
واللام في: {لله} للملك، و(ما) اسم موصول مفيد لعموم كل ما ثبتت له صلة الموصول من الموجودات الظاهرة والخفية.
ووعْد الله: هو وعده بعذاب المشركين، وهو وعيد، ويجوز أن يكون وعده مرادًا به البعث، قال تعالى: {كما بدأنا أول خلق نعيده وعْدًا علينا إنا كنا فاعلين} [الأنبياء: 104] فسمَّى إعادة الخلق وعْدًا.
وأظهر اسم الجلالة في الجملة الثانية دون الإتيان بضميره لتكون الجملة مستقلة لتجري مجرى المثل والكلام الجامع.
ووقع الاستدراك بقوله: {ولكنَّ أكثرهم لا يعلمون} لأن الجملتين اللتين قبله أريد بهما الرد على معتقدي خلافهما فصارتا في قوة نفي الشك عن مضمونهما، فكأنه قيل: لا شك يَحق في ذلك، ولكن أكثرهم لا يعلمون فلذلك يَشكّون.
وتقييد نفي العلم بالأكثر إشارة إلى أن منهم من يعلم ذلك ولكنه يجحده مكابرة، كما قال في الآية السابقة: {ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به} [يونس: 40].
فضمير: {أكثرهم} للمتحدث عنهم فيما تقدم. اهـ.

.قال الشعراوي:

{أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}
وألا في اللغة يقال عنها أداة تنبيه وهي تنبه السامع أن المتكلم سيقول بعدها كلامًا في غاية الأهمية، والمتكلم كما نعلم يملك زمام لسانه، بحكم وضعه كمتكلم، لكن السامع يكون في وضع المُفاجَأ.
وقد يتكلم متكلم بما دار في ذهنه ليبرزه على لسانه للمخاطب، ولكن المخاطب يفاجأ، وإلى أن ينتبه قد تفوته كلمة أو اثتنان مما يقوله المتكلم.
والله سبحانه وتعالى يريد ألاَّ يفوت السامع لقوله أي كلمة، فأتى بأداة تنبيه تنبه إلى الخبر القادم بعدها، وهو قول الحق سبحانه: {إِنَّ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض} [يونس: 55].
هكذا شاء الحق سبحانه أن تأتي أداة التنبيه سابقة للقضية الكلية، وهي أنه سبحانه مالك كل شيء، فهو الذي خلق الكون، وخلق الإنسان الخليفة، وسخَّر الكون للإنسان الخليفة، وأمر الأسباب أن تخضع لمسببات عمل العامل؛ فكل من يجتهد ويأتي بالأسباب؛ فهي تعطيه، سواء أكان مؤمنًا أو كافرًا.
وإذا خدمت الأسبابُ الإنسانَ، وكان هذا الإنسان غافلًا عن ربه أو عن الإيمان به، ويظن أن الأسباب قد دانت له بقوته، ويفتن بتلك الأسباب، ويقول مثلما قال قارون: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عندي} [القصص: 78].
فالذي نسي مسبِّب الأسباب، وارتبط بالأسباب مباشرة، فهو ينال العذاب، إن لم يكن في الدنيا ففي الآخرة؛ فكأن الحق سبحانه ينبههم: تَنَّبهوا أيها الجاهلون، وافهموا هذه القضية الكبرى: {إِنَّ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض} [يونس: 55].
فإياك أيها الإنسان أن تغترَّ بالأسباب، أو أنك بأسبابك أخذت غير ما يريده الله لك، فهو سبحانه الذي أعطاك وقدَّر لك، وكل الأسباب تتفاعل لك بعطاء وتقدير من الله عز وجل.
وفي أغيار الكون الدليل على ذلك، ففكرك الذي تخطِّط به قد تصيبه آفة الجنون، والجوارح مثل اليد أو القدم أو اللسان أو العين أو الأذن قد تُصاب أيُّ منها بمرض؛ فلا تعرف كيف تتصرف.
وكل ما تأتي فيه الأغيار؛ فهو ليس من ذاتك، وكل ما تملكه موهوب لك من مسبِّب الأسباب.
فإياك أن تنظر إلى الأسباب، وتنسى المسبِّب؛ لأن لله ملك الأشياء التي تحوزها والأدوات التي تحوز بها؛ بدليل أنه سبحانه حين يشاء يسلبها منك، فتنبه أيها الغافل، وإياك أن تظن أن الأسباب هي الفاعلة، بدليل أن الله سبحانه وتعالى يخلق الأسباب؛ ثم يشاء ألا تأتي بنتائجها، كمن يضع بذور القطن مثلًا ويحرث الأرض، ويرويها في مواعيدها، ثم تأتي دودة القطن لتأكل المحصول.
إذن: فمردُّ كل مملوك إلى الله تعالى.
واعلمْ أن هناك مِلْكًا، وإن هناك مُلْكًا، والمِلْك هو ما تملكه؛ جلبابًا؛ أو بيتًا، أو حمارًا، إلى غير ذلك، أما المُلْك فهو أن تملك من له مِلْك، وتسيطر عليه، فالقمة إذن في المُلْك.
وانظر إلى قول الحق سبحانه: {قُلِ اللهم مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَاءُ} [آل عمران: 26].
إذن: فالمُلك في الدنيا كله لله سبحانه.
وكلمة ألا جاءت في أول الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها لتنبِّه الغافل عن الحق؛ لأن الأسباب استجابت له وأعطته النتائج، فاغترَّ بها، فيجعل الله سبحانه الأسباب تختلف في بعض الأشياء؛ ليظل الإنسان مربوطًا بالمسبِّب.
ويقول الحق سبحانه في نفس الآية: {أَلاَ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ} [يونس: 55].
والوعد إن كان في خير فهو بشارة بخير يقع، وإن كان بِشَرٍّ فهو إنذار بشرّ يقع؛ ويغلب عليه كلمة الوعيد.
إذن: ففي غالب الأمر تأتي كلمة وعد للأثنين: الخير والشر، أما كلمة وعيد فلا تأتي إلا في الشر.